فصل: تفسير الآيات (108- 109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآيات (84- 88):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
{لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ} لا يسفك بعضكم دم بعض، وإعرابه مثل لا تعبدون {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ} بالميثاق واعترفتم بلزومه {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} بأخذ الميثاق عليكم {هؤلاء} منصوب على التخصيص بفعل مضمر، وقيل: هؤلاء مبتدأ وخبره أنتم وتقتلون حالاً لازمة تم بها المعنى {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} كانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير: حلفاء الخزرج، وكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، ويتقيه من موضعه إذا ظفر به {تظاهرون} أي تتعاونون {تفادوهم} قرئ بالألف وحذفها والمعنى واحد. وكذلك أسارى بالألف وحذفها جمع أسير {وَهُوَ مُحَرَّمٌ} الضمير للإخراج من ديارهم، وهو مبتدأ وخبره محرم و{إِخْرَاجُهُمْ} بدل، والضمير للأمر والشأن، وإخراجهم: مبتدأ، ومحرّم خبره، والجملة خبر الضمير {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} فداؤهم الأسارى موافقة لما في كتبهم {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} القتل والإخراج من الديار مخالفة لما في كتبهم {خِزْيٌ} الجزية أو الهزيمة لقريظة والنضير وغيرهم، أو مطلق {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} أي جئنا من بعده بالرسل، وهو مأخوذ من القفا أي جاء بالثاني في قفا الأول {البينات} المعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك {بِرُوحِ القدس} جبريل، وقيل؛ الإنجيل، وقيل الاسم الذي كان يحيى به الموتى، والأول أرجح لقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102] ولقوله صلى الله عليه وسلم لحسان: اللهم أيده بروح القدس {أَتَقْتُلُونَ} جاء مضارعاً مبالغة لأنه أيد استحضاره في النفوس، أو لأنهم حاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أن الله عصمه {غُلْفٌ} جمع أغلف: أي عليه غلاف، وهو الغشاء فلا تَفْقَه {بَل لَّعَنَهُمُ الله} رداً عليهم، وبيان أن عدم فقههم بسبب كفرهم {فَقَلِيلاً} أي إيماناً قليلاً {مَّا يُؤْمِنُونَ} ما زائدة، ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم على أصلها؛ لأن من دخل منهم بالإسلام قليل، أو لأنهم آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض.

.تفسير الآية رقم (89):

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}
{وَلَمَّا جَآءَهُمْ كتاب مِّنْ عِندِ الله} وهو القرآن {مُصَدِّقٌ} تقدم أن له ثلاث معانٍ {يَسْتَفْتِحُونَ} أي ينتصرون على المشركين، إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم المشركين، قد أظل زمان نبي يخرج فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، وقيل: يستفتحون؛ أي يعرفون الناس النبي صلى الله عليه وسلم، والسين على هذا للمبالغة كما في استعجب واستسخر، وعلى الأول للطلب {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ} القرآن والإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، قال المبرِّد: كفروا جواباً لما الأولى والثانية، وأُعيدت الثانية لطول الكلام، ولقصد التأكيد، وقال الزَّجَّاج: كفروا جواباً لما الثانية، وحذف جواب الأولى للاستغناء عنه لذلك، وقال الفراء جواب لما الأولى فلما، وجواب الثانية كفر {عَلَى الكافرين} أي عليهم يعني اليهود، ووضع الظاهر موضع المضمر ليدل أن اللعنة بسبب كفرهم، واللام للعهد أو للجنس، فيدخلون فيها مع غيرهم من الكفار.

.تفسير الآيات (90- 91):

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
{بِئْسَمَا} فاعل بئس مضمر، وما مفسرة له، و{أَن يَكْفُرُواْ}: هو المذموم وقال الفراء: بئسما مركب كحبّذا وقال الكاسي: ما مصدرية أي اشتراكهم فهي فاعلة {اشتروا} هنا بمعنى باعوا {أَن يَكْفُرُواْ} في موضع خبر ابتداء، أو مبتدأ كاسم المذموم في بئس؛ أو مفعول من أجله، أو بدل من الضمير في به {بِمَآ أنَزَلَ الله} القرآن أو التوراة لأنهم كفروا بما فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم {أَن يُنَزِّلُ} في موضع مفعول من أجله {مِن فَضْلِهِ} القرآن والرسالة {مَن يَشَآءُ} يعني محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنهم إنما كفروا حسداً لمحمد صلى الله عليه وسلم لما تفضل الله عليه وبالرسالة {بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} لعبادتهم العجل، أو لقولهم: عزير ابن الله، أو لغير ذلك من قبائحهم {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} القرآن {بِمَا وَرَآءَهُ} أي بما بعده وهو القرآن {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} رداً عليهم فيما ادّعوا من الإيمان بالتوراة، وتكذيب لهم، وذكر الماضي بلفظ المستقبل إشارة إلى ثبوته، فكأنه دائم لما رضي هؤلاء به {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} شرطية بمعنى القدح في إيمانهم، وجوابها يدل عليه ما قبل، أو نافية فيوقف قبلها والأول أظهر.

.تفسير الآيات (92- 93):

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}
{بالبينات} يعني المعجزات: كالعصا، وفلق البحر، وغير ذلك {اتخذتم العجل} ذكر هنا على وجه ألزم لهم، والإبطال بقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وكذلك رفع الطور، وذكر قبل هذا على وجه تعداد النعم لقوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم} [البقرة: 52] {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [البقرة: 64] وعطفه بثم في الموضعين إشارة إلى قبح ما فعلوه من ذلك {مِن بَعْدِهِ} الضمير لموسى عليه السلام: أي من بعد غيبته في مناجاة الله على جبل الطور {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، ويحتمل أن يكونوا قالوه بلسان المقال، أو بلسان الحال {وَأُشْرِبُواْ} عبارة عن تمكن حب العجل في قلوبهم، فهو مجاز، تشبيهاً بشرب الماء، أو بشرب الصبغ في الثوب وفي الكلام محذوف أي أشربوا حب العجل وقيل: إن موسى برد العجل بالمبرد ورمى برادته في الماء فشربوه، فالشرب على هذا حقيقة، ويردّ هذا قوله: في قلوبهم {بِكُفْرِهِمْ} الباء سببية للتعليل، أو بمعنى المصابة {يَأْمُرُكُمْ} إسناد الأمر إلى إيمانهم، فهو مجاز على وجه التهكم، فهو كقولهم: {أصلاوتك تَأْمُرُكَ} [هود: 87] كذلك إضافة الإيمان إليهم.

.تفسير الآيات (94- 96):

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
{إِنْ كُنْتُمْ} شرط أو نفي {فَتَمَنَّوُاْ الموت} بالقلب أو اللسان أو باللسان خاصة، وهذا أمر على وجه التعجيز والتبكيت، لأنه من علم أنه من أهل الجنة اشتاق إليها، وروي أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، وقيل: إن ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم دامت طول حياته {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} إن قيل: لم قال في هذه السورة: ولن يتمنوه، وفي سورة الجمعة: ولا يتمنونه فنفى هنا بلن، التي تخص الاستقبال ولما كان الشرط في الجمعة حالاً، وهو قوله: إن زعمتم أنكم أولياء لله جاء جوابه بلا: التي تدخل على الحال، أو تدخل على المستقبل {بِمَا قَدَّمَتْ} أي لسبب ذنوبهم وكفرهم {عَلِيمٌ بالظالمين} تهديد لهم {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} فيه وجهان: أحدهما: أن يكون عطفاً على ما قبله فيوصل به، ولمعنى أن اليهود أحرص على الحياة من الناس ومن الذين أشركوا، فحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، وخص الذين أشركوابالذكر بعد دخولهم في عموم الناس لأنهم لا يؤمنون بالآخرة فإفراط حبهم للحياة الدنيا.
والآخر: أن يكون من الذين أشركوا ابتداء كلام فيوقف على ما قبله، والمعنى: من الذين أشركوا قوم {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} فحذف الموصوف، وقيل: أراد به المجوس، لأنهم يقولون لملوكهم عش ألف سنة، والأول أظهر؛ لأن الكلام إنما هو في اليهود، وعلى الثاني يخرج الكلام عنهم {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} الآية: فيها وجهان؛ أحدهما: أن يكون هو عائد على أحدهم، وأن يعمر فاعل لمزحزحه، والآخر: أن يكون هو للتعمير وأن يعمر بدل.

.تفسير الآيات (97- 98):

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}
{مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} الآية: سببها أنّ اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: جبريل عدوّنا لأنه ملك الشدائد والعذاب؛ فلذلك لا نؤمن به، ولو جاءك ميكائيل لآمنا بك؛ لأنه ملك الأمطار والرحمة {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} فيه وجهان: الأول فإن الله نزل جبريل، والآخر فإن جبريل نزل القرآن، وهذا أظهر، لأن قوله: مصدّقاً لما بين يديه من أوصاف القرآن، والمعنى: الرد على اليهود بأحد وجهين: أحدهما من كان عدواً لجبريل فلا ينبغي له أن يعاديه؛ لأنه نزله على قلبك فهو مستحق للمحبة، ويؤكد هذا قوله وهدى وبشرى، والثاني: من كان عدوّاً لجبريل فإنما عاداه لأنه نزله على قلبك، فكان هذا تعليل لعداوتهم لجبريل {وَجِبْرِيلَ وميكال} ذُكرا بعد الملائكة تجديداً للتشريف والتعظيم.

.تفسير الآيات (100- 102):

{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
{أَوَكُلَّمَا} الواو للعطف، قال الأخفش: زائدة {نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} نزلت في مالك بن الصيف اليهودي وكان قد قال: والله ما أخذ علينا عهد أن نؤمن بمحمد رسول يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {كتاب الله} يعني القرآن أو التوراة؛ لما فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم أو المتقدّمين {مَا تَتْلُواْ} هو من القراءة أو الأتباع {على مُلْكِ سليمان} أي في ملك أو عهد ملك سليمان {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} تبرئة له مما نسبوه إليه، وذلك أن سليمان عليه السلام دفن السحر ليذهبه فأخرجوه بعد موته، ونسبوه إليه، وقالت اليهود: إنما كان سليمان ساحراً، وقيل إنّ الشياطين استرقوا السمع وألقوه إلى الكهان، فجمع سليمان ما كتبوا من ذلك ودفنه، فلما مات قالوا: ذلك علم سليمان {وَمَا كَفَرَ سليمان} بتعليم السحر وبالعمل به أو بنسبته إلى سليمان عليه السلام {وَمَآ أُنْزِلَ} نفي أو عطف على السحر عليهما، إلاّ أن ذلك يردّه آخر الآية، وإن كانت معطوفة بمعنى الذي فالمعنى؛ أنهما أنزل عليهما ضرب من السحر ابتلاءً من الله لعباده، أو ليعرف فيحذر، وقرئ الملكين بكسر اللام وق الحسن: هما علجان، فعلى هذا يتعين أن تكون ما غير نافية {بِبَابِلَ} موضع معروف {هاروت وماروت} اسمان علمان بدل من الملكين أو عطف بيان {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي محنة، وذلك تحذير من السحر {فَلاَ تَكْفُرْ} أي بتعليم السحر، ومن هنا أخذ مالك أن الساحر نقتل كفراً {يُفَرِّقُونَ} زوال العصمة أو المنع من الوطء {يَضُرُّهُمْ} أي في الآخرة {عَلِمُواْ} أي اليهود والشياطين: {لَمَنِ اشتراه} أي اشتغلوا به، وذكر الشراء، لأنهم كانو يعطون الأجرة عليه {مَا} هنا بمعنى باعوا.

.تفسير الآية رقم (103):

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
{لَمَثُوبَةٌ} من الثواب وهو جواب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ} وإنما جاء جوابها بجملة اسمية وعدل عن الفعلية؛ لما في ذلك من الدلالة على إثبات الثواب واستقراره. وقيل الجواب محذوف أي لأثيبوا {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} في الموضعين نفي لعلمهم.

.تفسير الآيات (104- 105):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
{لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله راعنا، وذلك من المراعاة أي: راقبنا وانظرنا، فكان اليهود يقولونها: ويعنون بها معنى الرعونة على وجه الإذاية للنبي صلى الله عليه وسلم، وربما كانوا يقولونها على معنى النداء، فنهى الله المسلمين أن هذه الكلمة؛ لاشتراك معناها بين ما قصده المسلمون وقصده اليهود، فالنهي سدَّا للذريعة، وأمروا أن يقولوا؛ انظرنا، لخلوّه عن ذلك الاحتمال المذموم، فهو من النظر والانتظار، وقيل: إنما نهى الله المسلمين عنها لما فيها من الجفاء وقلة التوقير {واسمعوا} عطف على قولوا، لا على معمولها. ولا معنى: الأمر بالطاعة والانقياد {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} جنس يعم نوعين: أهل الكتاب، والمشركين من العرب، ولذلك فسره بهما، ومعنى الآية أنهم: لا يحبون أن ينزل الله خيراً على المسلمين {مِّنْ خَيْرٍ} من للتبعيض، وقيل: زائدة لتقدم النفي في قوله: ما يودّ {بِرَحْمَتِهِ} قيل: القرآن وقيل: النبوة وللعموم أولى، ومعنى الآية: الردّ على من كره الخير للمسلمين.

.تفسير الآية رقم (106):

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
{مَا نَنسَخْ} نزل حكمه ولفظه أو أحدهما، وقرئ بضم النون أن نأمر بنسخه {أَوْ نُنسِهَا} من النسيان، وهو ضدّ الذكر: أي ينساها النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله كقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] أو بمعنى الترك: أي نتركها غير منزلة: أي غير منسوخة، وقرئ بالهمز بمعنى التأخير: أي نؤخر إنزالها أو نسخها {بِخَيْرٍ} في خفة العمل، أو في الثواب {قَدِيرٌ} استدلال على جواز النسخ لأنه من المقدورات، خلافاً لليهود لعنهم الله فإنهم أحالوا على الله. وهو جائز عقلاً، وواقع شرعاً فكما نسخت شريعتهم ما قبلها، نسخها ما بعدها.

.تفسير الآيات (108- 109):

{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}
{تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ} أي تطلبوا الآيات، ويحتمل السؤال عن العلم، والأوّل أرجح لما بعده، فإنه شبهه بسؤالهم لموسى، وهو قولهم لهم: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب} أي تمنوا، ونزلت الآية في حيي بن أخطب وأمية بن ياسر، وأشباههما من اليهود، الذين كانوا يحرصون على فتنة المسلمين، ويطمعون أن يردّوهم عن الإسلام {حَسَداً} مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال، والعامل في ما قبله، فيجب وصله معه، وقيل: هو مصدر، والعامل فيه محذوف تقديره: يحسدونكم حسداً، فعلى هذا يوقف على ما قبله، والأوّل أظهر وأرجح {مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} يتعلق بحسداً، وقيل: بيودّ {فاعفوا} منسوخ بالسيف {بِأَمْرِهِ} يعني إباحة قتالهم أو وصول آجالهم.